لا يكاد يختلف اثنان فى أن الإنسان كائن عدوانى –
ويكاد يكون هو الكائن الوحيد الذى يعتدى على بنى جنسه
حيث يقتل غيره ويجد متعة فى مثل هذا القتل.
ومن المألوف أن نصف قسوة الإنسان بأنها عمل وحشى،
والواقع أن قسوة الإنسان على الإنسان لا ميل لها عند
الحيوانات. والحقيقة التى يجب أن نعترف بها أننا كبشر
أقسى وأشرس من عاش ويعيش على وجه هذه الأرض.
ولكل منا ميوله العدوانية التى تظهر فى القتل والضرب
والسب والإيذاء، وتظهر بصورة واضحة فى مرحلة المراهقة
حيث اندفاع المشاعر والسلوكيات .. فما هو العدوان وما
هى المظاهر الفسيولوجية المصاحبة له وأهميته للإنسان
بوجه عام؟
عندما يصبح العدوان سلوكاً مرضياً فإنه قد يتحول
إلى الفرد ذاته فيتعدى على نفسه، وقد ينتهى به هذا
الاعتداء إلى الانتحار. وقد ينسب الفرد العدوان إلى
الآخرين ويبرئ نفسه من عدوانه عليهم. وقد يعود الفرد
إلى مظاهر غضب الطفولة فينفجر فى صيحات وصراخ وكأنه
طفل غاضب ويعتدى على ما حوله فى بيئته. ومثل هؤلاء
الأفراد يسفرون بعدوانهم المرضى عند عجزهم عن أن
يسلكوا بهذا العدوان سلوكاً إيجابياً سوياً متكاملاً
مع البناء العام لشخصيتهم. المزيد عن الانتحار ..
ولهذا يعد العدوان من أهم موضوعات التربية الأسرية،
لأن هذه التنشئة من أهم وسائل التحكم فى العدوان منذ
نشأته الأولى فى الطفولة المبكرة، وفى تحديد مساره
السوى .. حتى لا يصبح سمة لشخصية المراهق والتى تصاحبه
فى مراحله العمرية بعد النضج.
* تعريف العدوان:
لكن ما هو العدوان وماذا يعنى؟ ومتى يصبح العدوان
سوياً إيجابياً نافعاً، ومتى لا يصبح سويا مخرباً
مدمرا حتى نستطيع أن نوجه طاقة العدوان اللاسوى إلى
العدوان السوى.
من الصعب تعريف العدوان لأنه يستخدم فى مجالات متعددة،
ويدل فى كل مجال من المجالات على معنى يختلف عن معانى
المجالات الأخرى.
فالطفل الذى يصيح فى غضب ليحصل على الحلوى، يدل بذلك
الصياح على سلوك عدوانى لأنه يشعر بالإحباط الذى يحول
بينه وبين إشباع رغباته. والقاضى الذى يغضب فيحكم على
المذنب بأقسى وأقصى العقوبات يمكن أن يدل بذلك أيضا
على سلوك عدوانى يتصف بالانتقام والغيظ.
هذا وقد ترجع بعض مشكلات تعريف العدوان إلى أننا لا
نستطيع أن نضع خطا فاصلاً بين العدوان الذى يمكن أن
نحتمله ونتجاوز عنه، وبين العدوان الضرورى لبقائنا
واستمرار حياتنا، والعدوان المدمر والمخرب.
فعندما يثور المراهق على السلطة القائمة فإنه يصبح
عدوانياً، ولكن هذا العدوان يمثل ميله إلى الاستقلال
ورغبته فى الحرية. وهذا الميل أو تلك الرغبة أحدى
مظاهر نموه، ومن أهم مطالبة الحيوية لاكتمال هذا
النمو.
والرغبة فى القوة والسيطرة ظاهرة سيئة لا نقرها ولا
نرضاها. لكن سيطرة الفرد على المشكلات التى تواجهه
ظاهرة طيبة نقرها ونرضاها لأنها وسيلة الإنسان لمواجهة
المجهول والانتصار على الصعاب والتحكم فى البيئة
المحيطة به.
وهكذا يصل بنا هذا التحليل إلى تعريف العدوان بأنه
الاستجابة التى تعقب الإحباط ويراد بها إلحاق الأذى
بفرد آخر أو حتى بالفرد نفسه، ومثال ذلك الانتحار فهو
سلوك عدوانى على الذات وهو منتشر فى مرحلة المراهقة
حيث التغيرات النفسية والفسيولوجية وظهور واضح لظاهرة
العدوان.
* المظاهر الفسيولوجية المصاحبة للعدوان:
يوجد فى الحيوان والإنسان عمليات فسيولوجية ينمو به
عندما يثار إلى الشعور بالغضب وإلى تغيرات فسيولوجية
تعد الفرد للقتال. المزيد عن الغضب ..
وعندما يغضب الفرد تسرع ضربات قلبه ويزداد ضغط دمه
وتزداد نسبة
الجلوكوز فى دمه، ويزداد معدل تنفسه فى شهيقه
وزفيره، وتنكمش عضلات أطرافه وتتوتر لتقاوم التعب
والإرهاق، وتزداد سرعة الدورة الدموية وخاصة الأطراف.
وبعض الفرد على أنيابه، تصدر عنه أصوات لا إرادية،
ويقل إدراكه الحسى حتى أنه قد لا يشعر
بالألم فى
معركته مع غريمه.
ولمعرفة التغيرات الفسيولوجية التى تؤدى إلى العدوان
كانت إجراء بعض التجارب على القطط: فعندما تستثار
الغدة الهيبوسلامية (Hypothalamus) الموجودة فى قاع
المخ بالتيار الكهربائى المناسب فإن الحيوان يغضب
وتبدو عليه جميع أعراض السلوك العدوانى مع عدم وجود
الغريم الذى يثير مثل هذا السلوك.
وتخضع هذه الغدة فى عملها للكف المفروض عليها من
القشرة المخية الذى يحول بينهما وبين دفعها الفرد إلى
السلوك العدوانى. وعندما تصل أية إشارة من العالم
الخارجى بما قد يؤدى إلى تهديد حياة الفرد أو يؤدى به
إلى الإحباط فإن القشرة المخية تحرر الغدة
الهيبوسلامية من قيودها فتبدأ عملها، فيغضب الفرد
ويسلك سلوكه العدوانى.
وتدل نتائج التجارب التى أجريت على علاقة القشرة
المخية بالغدة الهيبوسلامية أنه عند قطع الاتصال
العضوى القائم بين القشرة المخية وهذه الغدة فإن
الكائن الحى يصبح عصبياً عدوانياً.
ويُقال أن الغدة الهيبوسلامية فى عملها جسم يسمى
الأميجدالا (Amygdala) وعندما يستثار هذا الجسم فى
الحيوان والإنسان بالتيار الكهربائى المناسب فإن الفرد
يخاف ويهرب إلى أقرب مأوى، وكأنه يحتمى من شىء مخيف
يهدد حياته. والمرضى الذين يتعرضن لاستثارة الأميجدالا
أثناء إجراء العمليات الجراحية بالمخ يصابون بالقلق،
وأحياناً ينتابهم خوف شديد فيصيحون فى فزع شديد.
وعندما يستأصل الجسم الأميجدالا من عند بعض الحيوانات
المتوحشة بعملية جراحية فإنها تصبح أليفة، وتقترب من
الإنسان دون أن تعرضه لأى أذى.
* وظيفة العدوان وأهميته:
يتصل العدوان اتصالا مباشراً بالجذور الأساسية للتقدم
البشرى. ولقد حقق الإنسان مكانته فى البيئة المحيطة به
عن طريق سلوكه العدوانى. ولولا هذا السلوك لما أصبح
الإنسان هو يحق سيد هذه الأرض التى يحيا عليها مسيطراً
على ما بها من قوى حتى أخضعها لإرادته وتحقيق آماله
ورغباته، ولولا ذلك العدوان لانقرض النوع الإنسانى من
عهد سحيق.
ولذا فلا يقتصر العدوان فقط على التخريب والتدمير لأن
هدفه الأساسى هو مساعدة الفرد على النمو وعلى تحقيق
سيادته فى الحياة التى يحياها. وعندما يحاول الفرد
تحقيق أهدافه فإنه غالباً ما يثور ويغضب ويعتدى على كل
ما يحول بينه وبين تحقيق أهدافه، لأن هدف العدوان
استمرار حياة الكائن الحى فى مواجهة البيئة الخارجية
المحيطة به، والتى تحمل بين طياتها ما يهدد استمرار
هذا الحياة وما يؤدى بالفرد إلى الإحباط.
بهذا يمتد مجال العدوان لتهيئة الفرد للتغلب على
الصعاب ولتأكيد مكانته حتى يصبح كائناً متميزاً
بشخصيته عن الآخرين. والعدوان بهذا المعنى ضرورة من
ضرورات البقاء بشرط أن يتمكن الإنسان من ترويضه
وتطويعه لفائدة البشرية لا لتدميرها.
* العلاقة بين التعلق والانفصال والعدوان:
عندما يتحول الفرد من طفل يتعلق بأمه إلى راشد يستقل
بذاته ويدرك حقوقه وواجباته، فإنه يتخفف بالتدريج من
التعلق إلى الانفصال وقد يتطور الانفصال إلى العدوان.
والفرد فى انفصاله وفى عدوانه يؤكد وجوده واستقلاله.
ومن أهم التجارب التى توضح العلاقة بين التعلق
والانفصال والعدوان وخاصة عندما يتخذ الانفصال
والعدوان مظهر اكتشاف البيئة المحيطة بالفرد والسيطرة
على مثيراته تجربة "هارلو H.F. Harlow وهارلو M.K
Harlow" حيث قام الباحثان بتربية قرد صغير مع دمية
صناعية كبديل للأم، وترك القرد وحده مع أمه الصناعية
وبعض اللعب والأحجار والكرات وما شابه ذلك. وفى البدء
بدت الحيرة على وجه القرد وأسرع فى خوف إلى أمه
الصناعية ليتملق بها ليحمى نفسه من خطر هذا المجهول.
ثم بدأ بعد ذلك يتحول بالتدريج، إلى أن وصل وأن تحولت
مشاعره للعدوانية تجاه أمه الصناعية التى رفضها.