إن التقدم العلمي في أى دولة هو السبيل الوحيد لتحقيق التطور المنشود والتنمية المستدامة بالإضافة إلى مواجهة المشاكل المزمنة والتهديدات التي يواجهها المجتمع.
لهذا يدرك المسئولون والمتخصصون في التعليم أهمية المناهج العلمية في المدرسة، وأصبح الاهتمام الآن منصب على تقديم المعرفة العلمية في سن مبكر للأطفال الأمر الذى يجب أن يؤدى إلى زيادة الإقبال على العلوم والتخصص بها، مما يلبي الاحتياجات المتزايدة على التخصصات العلمية.
* النموذج التقليدي لتقديم العلوم: نموذج مراحل التطور الإدراكي للعالم جان بياجت (Jean Piaget 1896 - 1980) حسب هذا النموذج، يمر الأطفال بأربعة مراحل محددة في تطورهم الإدراكي (Cognitive Development).
العالم جان بياجت - Jean Piaget
أول مرحلة - الأطفال حتى سن الثانية: الإحساس الحركى Sensorimotor stage. خلال هذه المرحلة يكون الأطفال مشغولون باكتشاف علاقات أجسادهم بالبيئة المحيطة.
ثاني مرحلة - الأطفال من سن الثانية حتى السابعة: مرحلة ما قبل التشغيل Preoperational stage. خلال هذه المرحلة، لا يستطيع الأطفال تخزين كم متراكم من المعرفة أو القدرة على التفكير المنطقي.
ثالث مرحلة - الأطفال من سن السابعة حتى الحادية عشر: مرحلة التشغيل الأساسية Concrete operational stage. خلال هذه المرحلة، يبدأ الأطفال التفكير المنطقي ولكن فقط في الأمور العملية.
رابع مرحلة - الأطفال من سن الحادية عشر حتى السادسة عشر: مرحلة التشغيل الرسمية Formal operational stage. خلال هذه المرحلة، تتطور قدرات الأطفال على التفكير المجرد (Abstract thinking).
وعلى هذا الأساس تم تحديد فترة التعليم الثانوى لتقديم المفاهيم العلمية المجردة مثل تركيب الذرة والخلية (Atom & Molecule structure).
ولكن الدراسات الحديثة في مجال علم النفس الإدراكي (Cognitive psychology) أظهرت أن الاهتمام بالعلم يبدأ في حوالى سن العشر سنوات، وتبدأ التطلعات إلى المستقبل المهني من سن الثالث عشر أو الرابع عشر. ولذلك يكون تقديم الأفكار الكبيرة (Big ideas) للعلوم في سن الدراسة الثانوية يكون متأخراً للغاية وتؤدى إلى عزوف الكثيرين عن دراسة العلوم في المراحل اللاحقة من التعليم أو إلى التطلع إلى مستقبل مهنى في مجال العلوم.
* المفاهيم الحديثة لتقديم المعرفة العلمية في سن مبكر: إن نظرية بياجت (Piaget theory) تم تحديثها مع تطور علم النفس (Psychology). فتطور إدراك الأطفال متنوع للغاية وهذا التنوع موجود في كل الأعمار وفي كل مجالات التعليم هذا التنوع موجود حتى على المستوى الشخصى.
هناك تنوع في التطور الإدراكى للطفل يعتمد على عدة عوامل منها الخلفية الثقافية، تاريخ التعلم وأسلوبه للطفل.
نظرية بياجت قللت من شأن قدرات الأطفال، فالكثير منهم لديهم فضول يمكن تواصله مع المنهج العلمي والفلسفة ذاتها. فالأطفال يفكرون ببساطة ولهم قدرات متطورة على الفهم والاستيعاب والتى هى أساس التفكير العلمى.
البحوث العلمية الحديثة أثبتت أن الأطفال في سن صغيرة يمكن أن تستوعب المفاهيم العلمية المعقدة مثل الانتخاب الطبيعي (Natural selection). وهناك أبحاث في أساليب التدريس وتجارب تجرى لتدريس مواد أكثر تعقيداً مثل تركيب الذرّة والخلايا الذرية لسن يبدأ من السادسة إلى التسع سنوات بدلاً من أربعة عشر سنة وهى السن الذى يقدم خلالها هذه المواد.
إن العلم هو آلية تساؤل يتم من خلالها تقييم وإعادة بناء نماذج عن العالم الطبيعي وهذا يتطابق مع الفضول الفطرى للأطفال عن العالم من حولهم.
يمكن تقسيم المادة العلمية للطفل كما يمكن للطفل اكتشاف مفاهيم العلم الأساسية مثل الفرق بين الكائنات الحية والجماد، الأدوات العلمية المستخدمة في البحوث والقياسات، أو كيف تتلائم الكائنات الحية مع البيئة المحيطة.
من النتائج التى تم التوصل إليها في علم النفس الإدراكى، أن تاريخ التدريس وأسلوبه مع الأطفال عوامل مهمة لتطور المفاهيم لديهم (Conceptual development).
أيضاً الخلفية المعرفية تلعب دوراً مؤثر جداً في تقديم المعلومة في سياق معرفى يُمكّن الأطفال من فهم المادة العلمية وربطها بالعالم حولهم وبالتالى قد يكون عدم فهم الطالب أو حتى الفصل بأكمله للمادة العلمية المطروحة ليس عائداً على صعوبة المادة ولكن على عدم وجود الخلفية المعرفية المناسبة أو بسبب تقديم المادة العلمية بشكل غير فعال لتكون أسهل في الفهم.
إن الابتكار في وسائل تقديم المادة العلمية للطفل وطرق طرحها هو أساس لفهم المادة العلمية وزيادة تقبل الأطفال لها والإقبال عليها، مثل استخدام النماذج (Models) وطرح المادة العلمية بعرض الأفكار وطرح الحوار حولها. فبالإضافة إلى الكتب المدرسية العديدة في مجال محدد، تكون الأنشطة الفعلية مثل التجارب العلمية البسيطة وسيلة لتعليم الطفل بشكل عملى. من خلال هذه الأنشطة يمكن للأطفال تكوين تكهنات وتدوين ملاحظات في مدوناتهم العلمية ومناقشة ما توصلوا إليه. المزيد عن ثقافة الحوار .. فن ومهارة فى الاختلاف
هناك حاجة لمزيد من الأبحاث والاستعانة بعلوم حديثة مثل علم الأعصاب (Neuroscience) لوضع تصور أفضل لتقديم الأفكار الكبيرة في العلم والتى عادة ما تكون مجردة للأعمار الأصغر للأطفال بشكل أكثر فعالية وتحديد السن المناسب لبدء تقديم هذه المعرفة، فحسب استنتاجات علماء علم الأعصاب، فالفترة المناسبة هى من سن الخامسة إلى العشر سنوات. كما أن هناك الحاجة للمتابعة الميدانية لتحقيق أقصى استفادة من قدرات الأطفال الإدراكية في تقديم المعرفة العلمية، كما نحتاج للابتكار والإبداع لجعل استيعاب هذه المعرفة به الكثير من المتعة والمرح.
* تأثير الإعلام في تكوين الخلفية العلمية للأطفال في مراحل مبكرة: الأطفال معرضون اليوم أكثر من أى وقت مضى للإعلام بوسائله المختلفة، وبازدياد تنوع هذه الوسائل سيزداد تأثير الإعلام على الأطفال خاصة في المراحل السنية المبكرة.
إن عدد الساعات اليومية التى يقضيها الأطفال في متابعة وسائل الإعلام المختلفة كبير ويزداد بشكل مستمر مع ازدياد تنوع هذه الوسائل، وهذه إشكالية في حد ذاتها إذا كانت هذه الساعات تهدر في محتوى غير مفيد بل و مضر في كثير من الأحيان.
لا توجد دراسات كافية لإظهار مدى تأثير الإعلام على مقدرة الأطفال على استيعاب المناهج الدراسية، رغم أن هناك الكثير من الدراسات التى ترصد تأثير الإعلام على الآراء، المعتقدات، التوجهات والسلوكيات مثل رؤية الأطفال الإيجابية أو السلبية عن أجسادهم، حجم المخاطرة التى يمكن أن يقبلوا عليها وحجم العنف الذى يمارسوه أو يتعرضوا إليه.
عادة ما يحصل الأطفال على معرفتهم العلمية الأولية من الإعلام ومن البرامج الترفيهية مثل المعلومات التي قد يحصلوا عليها عن الشريط الوراثى (DNA)، فهم يعرفونها من خلال دراما الجريمة خلال محاولات التعرف على القاتل أو الدراما الاجتماعية لتحديد صلة النسب المشكوك بها.
ومع التقدم العلمى وزيادة الاهتمام بالإنجازات العلمية، سيزداد تعرض الأطفال للمادة العلمية من خلال البرامج الترفيهية التى يشاهدونها. الأفلام الوثائقية، الكتب العلمية للأطفال، أفلام الكرتون، لعب الأطفال وغيرها من الوسائل ممكن أن تلعب دور إيجابي في تنمية الحصيلة اللغوية والمعرفة العلمية للأطفال، مما يساعد على تشكيل معرفة خلفية (Background knowledge) ملائمة لتقديم المادة العلمية في سن مبكر للأطفال.
مما لاشك فيه، نحن نحتاج إلى المزيد من الابتكار والإبداع في هذه الوسائل لتنمية معرفة خلفية بنّاءة للأطفال. سواء من خلال الإعلام الترفيهي أو الوسائط الأخرى، سيكون على واضعى المناهج الدراسية والمدرسين وضع في الاعتبار الخلفية المعرفية للأطفال التى تم اكتسابها خارج المدرسة.
إن العلوم مثل الفنون هى توحد البشرية على كل ما هو مشترك، ومن المؤكد أن تقديم المعرفة العلمية للأطفال الأصغر سناً ليس فقط سيجعلهم يتقبلون العلوم ويقبلون عليها، ولكن سيشجعهم ليهتموا أكثر بما يجمعنا في العالم المشترك الذى نعيش فيه والمشاكل والتحديات المشتركة التى تواجه البشرية أمام السعي لتحقيق التنمية المستدامة وتلبية احتياجات الإنسان المتزايدة بمزيد من التقدم العلمى وبأقل ضرر على البيئة حفاظاً عليها للأجيال المستقبلية.