* داروين ونظرية النشوء والتطور نظرية النشوء والتطور (Theory of evolution) مؤسسها العالم البريطانى تشارلز داروين / Charles Darwin، حيث كانت محاولة من جانبه لتفسير أصل الكائنات الحية وتركيبها المعقد وتقول هذه النظرية بأن كل النباتات والحيوانات في العالم اليوم تطورت بطريقة طبيعة من أشكال سابقة كانت أبسط.
كما تقول نظرية داروين أن نشوء أنواع الكائنات الحية يتم بتطورها من بعضها البعض وبفعل عوامل عديدة منها الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح والأقوى والقدرة على التكيف مع البيئة المحيطة .. فهي محاولة لتفسير وجود تركيبات الأجسام المعقدة التي نراها في الأشياء الحية من حولنا.
"فداروين" بنظريته عن التطور كان يحاول الإجابة على التساؤلات التالية: كيف تتطور الكائنات الحية .. وكيف ينقرض البعض منها، وما هو تفسير الاختلافات التى توجد بين تطور مختلف الكائنات الحية؟ إن الكثير من الكائنات الحية التي عاشت في الماضي قد تغيرت وتطورت حتى أصبحت على الشكل الذي هى عليه الآن، فقد ساهمت البيئة والطبيعة التى توجد من حولها بشكل مباشر أو غير مباشر فى تطوير هذه الكائنات من كائنات بدائية إلى كائنات أكثر تطوراً وهو ما أُطلق عليه نظرية التطور (Evolution) أو النظرية الداروينية لاحقاً (Darwinism)، فنظرية النشوء والتطور بكلمات بسيطة يمكن اختصارها إلى العبارات التالية: إن التركيب المعقد للكائنات الحية التى نراها فى الوقت الحالى ما هو إلا نتيجة تحولات وتغيرات حدثت بشكل تدريجى لكائنات بدائية تركيبها بسيط كانت موجودة فى الماضى.
* تاريخ التطور فى حياة الكائنات الحية: إن الحضارات القديمة المتمثلة فى حضارة مصر الفرعونية القديمة، وحضارة بلاد ما بين النهرين كلها تشير من خلال الرسومات الموجودة على جدران المعابد بأن كان هناك صراعاً قائماً بين حياة بدائية وأخرى معقدة وراقية .. أى أن تطور الكائنات الحية وتغيرها موجود منذ القدم ولم يظهر بين عشية وضحاها. ففى عام 450 قبل الميلاد قدم الفيلسوف الإغريقى "أمبادوقليس / Empédocle" تصوراً بسيطاً عن التطور حيث عرض فكرته فى مسرحية من وجود مخلوقات غريبة من ثور له أرجل بشرية أو جسداً بشرياً يحمل رأس ثور، ثم اختفت الكائنات الغريبة بنفس السرعة التى ظهرت بها فى حين استطاعت بعض الكائنات الأخرى التكيف والبقاء فى البيئة.
كما أشار الفيلسوف اليونانى الشهير "أرسطو / Aristotle" منذ أكثر من 2000 عاماً مضت، قائلاً: "إن الطبيعة تنزع إلى الانتقال من المادة الجامدة والميتة إلى المادة الواعية الحية وبشكل تدريجي بحت، حيث أن الحد الفاصل بينهما غير واضح أو محدد".
ثم جاءت العصور الحديثة التى تطورت فيها العلوم وظهرت الكثير والكثير من القوانين العلمية التى فسرت التطور الذى مرت بها الكائنات الحية منذ بداية خلقها على الأرض. ففى القرن الثامن عشر قام الكاتب "جورج لويس ليكليرك / Georges-Louis Leclerc"بتقديم نظريته في التغير المباشر الذي يحدث للحيوانات بفعل العوامل البيئية المحيطة بها. أما فى القرن التاسع عشر قام الفيلسوف "هربرت سبنسر / Herbert Spencer" بتأسيس مذهبه فى التطور قبل أن يظهر كتاب "داروين" أصل الأنواع الشهير .. وغيرها من مساعى العلماء والباحثين الآخرين. ثم جاء "داروين" لينشر ملاحظاته التى توصل إليها فى رحلته على سفينة "البيجل / Beagle" عن نظرية النشوء والتطور والتى أحدثت صدى كبير فى الأوساط العلمية وفى الوقت ذاته معارضة من رجال الدين.
* حياة داروين ورحلته: تشارلز روبرت داروين (Charles Robert Darwin) هو عالم التاريخ الطبيعى (Natural history) وصاحب نظرية النشوء والتطور (النشوء والارتقاء) 1809 – 1882، بريطانى الجنسية وكان ترتيبه الخامس بين أخوته الستة، وينتمى إلى عائلة علمية وأسرة غنية، حيث كان يعمل والده طبيباً وخبير مالي واسمه"روبرت داروين / Robert Darwin" أما جده فكان عالماً ومؤلفاً "آرازموس داروين / Erasmus Darwin".
عندما بدأ "داروين" فى نظريته كان يقينه بأن رد الفعل المضاد الذى يمكن أن تحدثه هذه النظرية سبباً وراء عدم تصريحه بها إلا لأحد أصحابه المقربين فقط ليشاهد اعتراضاته عليها، ثم اضطر إلى التصريح بها عند معرفته بأن هناك شخص يعمل على وضع أسس لنظرية أخرى مشابهة لنظريته وهو "ألفريد رسل ولايس / Alfred Russel Wallace" حينها قام بنشر نتائج بحثه. أظهر "داروين" ميلاً نحو التاريخ الطبيعي منذ صغره، وانطلاقاً من هذا الميل وقبل أن يلتحق بكلية الطب بجامعة أدنبرة (University of Edinburgh Medical School) قضى داروين صيف عام 1825 كطبيب متدرب، حيث كان يساعد أباه في علاج الفقراء مع شقيقه. وفي نفس العام، وجد داروين المحاضرات مملة فتجاهل دراسته، وتعلم التحنيط من "جون إدمونستون / John Edmonstone" - وهو عبد أسود محرر - أصبح داروين صديقا مقربا من أستاذ علم النباتات "جون ستيفنز هنسلو / John Stevens Henslow" وتعرف أيضا على آخرين من المهتمين بالطبيعة والذين كانوا ينظرون للعلم من زاوية دينية بحتة.
سفينة "البيجل / Beagle"
ثم جاءت رحلته على متن سفينة "البيجل / Beagle" التابعة للبحرية الملكية البريطانية لتمثل نقطة تحول فى حياته، تحول من مجرد مهتم بالعلوم الطبيعية وطبيب إلى عالم له إسهاماته فى الاكتشافات العلمية الكبرى – وسُميت الرحلة باسم "بيجل" نسبة إلى سلاسة الكلاب الشهيرة التى لها حجم متوسط ولون أبيض عليه بقع بنية. وكلاب "البيجل" سلالة قديمة، لكن النوعية الحديثة منها ظهرت فى بريطانيا فى القرن التاسع عشر حيث تم تهجينها بسلالات أخرى، كلاب "البيجل" تُستخدم فى أغراض عدة منها الصيد والبحث عن المواد المخدرة لما تتوافر لها من حاسة شم قوية، كما يمكن أن يربيها الإنسان كحيوان أليف فى المنزل.
كلب "البيجل"
كان أول سير لهذه السفينة (أول استخدام لها) فى عام 1820 من نهر التيمز / River Thames لتتويج "جورج الرابع" ملك المملكة المتحدة، ولم يتم استخدامها مرة أخرى إلى أن تم تحويلها إلى سفينة للاكتشافات والأبحاث العلمية التى تجوب بلدان العالم. وما قامت به من رحلات علمية استكشافية كان مقتصراً على ثلاث رحلات فقط، هى على النحو التالى: الأولى (1826-1830) حيث اتجهت إلى مناطق في أمريكا الجنوبية. - الرحلة الثانية (1831-1836) اتجهت أيضاً إلى مناطق فى أمريكا الجنوبية كما وصلت إلى نيوزيلندا وأستراليا وقد كان على متنها "تشارلز داروين". - الرحلة الثالثة (1837-1843) فكانت إلى أستراليا وبحر تيمور.
استمرت رحلة داروين (الرحلة الثانية للسفينة ما بين 1831 - 1836) على متن سفينة "بيجل" خمس سنوات وكان قائدها يدعى الكابتن روبرت فيتزروي / Robert FitzRoy، سخر "داروين" كافة مجهوداته لاكتشاف الطبيعة من حوله وأخذ العينات وتدوين ملاحظاته التى كان يرسلها إلى جامعة "كامبريدج". كان الكابتن "فيتزروي" قد أعطى داروين المجلد الأول لـ"تشارلز ليل / Charles Lyell" (مبادئ الجيولوجيا) التي تحدد مفاهيم تشكل الأرض الصاعدة ببطء أو الهابطة على مدى فترات زمنية هائلة التى شاهدها "داروين" عملياً بعينيه وبدأ يفكر جدياً فى إصدار كتاب عن الجيولوجيا – تشارلز ليل هو ذلك المحامى البريطانى والجيولوجى (1797 – 1875) والذى أسس مفهوم أن الأرض تكونت من خلال العمليات نفسها التي لا تزال تتم حتى الآن، وكان من الأصدقاء المقربين والمؤثرين فى حياة داروين.
مسار رحلة "داروين" على سفينة "البيجل / Beagle"
مارس "داروين" الكِتابة والتأليف بكثرة أثناء رحلته على "البيجل"، وكانت مُعظم ملاحظاته وكتاباته في علم الحيوان عن اللافقاريات البحرية والتي تبدأ من العوالق البحرية التي يجمعها عندما تهدأ الأمواج، كما شاهد "داروين" فى البرازيل الغابات الاستوائية. وفي باتاجونيا / Patagonia حقق داروين اكتشاف هام لعظم أحفوري لثدييات ضخمة منقرضة في المنحدرات بجانب أصداف بحرية حديثة دالا على انقراض حديث بدون وجود دلائل على حدوث تغيرات فى المناخ أو لكوارث ما. المزيد عن الحفريات .. المزيد عن تغير المناخ .. وأثناء سفر "داروين" فى الرحلة الثانية على متن سفينة "البيجل" تم اصطحاب ثلاثة من الفيوجين (السكان الأصليين في تييرا ديل فوجو Tierra del Fuego بأمريكا الجنوبية) الذين تم الاستيلاء عليهم فى رحلة سفينة البيجل الأولى ما بين (1826-1830) حيث كانت وجهتها آنذاك أمريكا الجنوبية وقضوا سنة كاملة فى إنجلترا، وعند إعادتهم مرة أخرى إلى بلدتهم ولكن كمبشرين (Missionaries) وجدهم "داروين" متحضرين واجتماعيين عند مقارنتهم بأقربائهم عند الوصول لبلدتهم الذين يبدو عليهم فى المقابل "البؤس والتدهور" ومن هنا ربط "داروين" بين هذا الاختلاف فى السمات الشخصية وبين الاختلاف بين الحيوانات البرية والمنزلية .. هذه الاختلافات أظهرت فرقاً في التقدم الحضاري.
أما فى "تشيلى" فقد عاصر فيها زلزالاً وتوصل إلى علاماته التى تتمثل فى ارتفاع الأرض وانحصار البحر، كما شاهد فى رحلته إلى جبال "الأنديز / Andes" - جبال الأنديز هي سلسلة جبلية واسعة ممتدة على طول الساحل الغربي لأمريكا الجنوبية، طولها ما يقرب من 7100 كيلومتر وعرضها 500 كيلومتر، أما ارتفاعها 4000 متر. تمتد هذه السلسلة الجبلية في سبع دول هي الأرجنتين والإكوادور وبوليفيا وبيرو وتشيلي وكولومبيا وفنزويلا - جذور أشجار تنمو عند الشواطئ الرملية ومن هنا وضع نظريته بينما الأرض ترتفع، والجزر المحيطية تغرق، تنمو الشُعب المَرجانية لتشكِّل جَزراً. المزيد عن الشعاب المرجانية ..
جبال "الأنديز / Andes"
في أستراليا، فقد بدا حيوان الكنغر / Kangaroo ذو الجراب ومنقار البط / platypus "duck-billed" كائنات غير عادية "لداروين" حيث اعتقد بأن هناك خالق آخر لهما، كما وجد السكان الأصليين لأستراليا هم شعبٌ لطيف ويتمتعون بحسٍ فكاهي، كما لاحظ بدايتهم في الاندثار نتيجة النزوح الأوروبي. قامت سفينة "البيجل" بالبحث والتنقيب عن أصل تكوين الجزر المرجانية المسماة بالكوكوس / Cocos Islands هى إحدى مناطق أستراليا. استطاع داروين أن يثبت بأن الكائنات الحية كلها تمر بمراحل تطور وأن الإنسان ليس هو الوحيد المتفرد بهذه التطورات، بل قد يكون هناك كائنات أخرى سبقته فى هذا التطور. ومقولة "داروين" هذه كانت سبباً فى فزع الكثير من رجال الدين الذين وصفوه بالكفر والإلحاد مع أن نظرية التطور كانت لتفسير كيفية تواجد أول خلية.
منقار البط / platypus "duck-billed"
- معلومة هامة: كما ذكر داروين في مذكراته، لقد بدأ تدوين أفكاره وملاحظاته في يوليو 1837 بدون نظرية تجمع الحقائق المدونة. ورغم أن فكرة نظريته واتته في عام 1838، ولكن بقي حتى النهاية أكبر ناقد لأفكاره. لقد انتظر أربعة أعوام حتى يضع مسودة أولى لنظريته ولم ينشر كتابه "أصل الأنواع / The origin of species" حتى عام 1859 - بعد حوالى عشرون عام من فكرة النظرية - وقد قام داروين خلال هذه السنوات بتدوين ملاحظاته وقرأ العديد من كتب الأدب والتاريخ الطبيعى وكتب الرياضة وكتب عن سلالات الحيوانات.
كتاب "أصل الأنواع" الذى تم نشره عام 1859
وكل هذه الاكتشافات وغيرها من الاكتشافات الأخرى التى توصل إليها "داروين" فى رحلته على متن سفينة "البيجل" لاقت اهتماماً كبيراً عندما عاد من الرحلة إلى بريطانيا.
* نظرية النشوء والتطور: أو نظرية النشوء والارتقاء هى إحدى المحاولات لتفسير الحياة على الأرض، فما هى المفاهيم الأساسية التى قدمها "داروين" فى نظريته عن النشوء والتطور؟ التطور فى عالم الكائنات الحية هو التغير الذى يحدث في الصفات الوراثية عبر الأجيال المتلاحقة، هذه التغيرات تشمل الأنواع، أفراد الكائنات الحية، والجزيئات (Molecules) والبروتينات (Proteins). قام "داروين" بتفسير نشأة المخلوقات على الأرض وكيف تطورت إلى أن وصلت إلى أشكالها الحالية حيث أشار "داروين" إلى المفاهيم التالية فى نظريته الشهيرة: إن كافة المخلوقات كانت بدايتها خلية أحادية (Monocell) وهى "الأميبا / Amboeba"، هذه الخلية تكونت بفعل امتزاج جزيئات من البروتين مع عوامل بيئية أخرى متمثلة فى الأمطار والحرارة وغيرها من العوامل الجوية الأخرى. أما جزىء البروتين فأصل وجوده تجمع مجموعة من الأحماض الأمينية (Amino acids) مختلفة مع عوامل بيئية ومناخية مختلفة، والأحماض الأمينية بدورها تكونت بفعل اتحاد عناصر الكربون (Carbon) والهيدروجين (Hydrogen) والنيتروجين (Nitrogen) والأكسجين (Oxygen).
كما يقول "داروين" فى نظريته أن الخلية الأولية "الأميبا" انقسمت إلى خليتين ثم إلى خلايا متعددة ظهرت منها الأنواع المختلفة من الكائنات الحية من الحشرات والحيوانات والطيور والزواحف والثدييات ومن ضمنها الانسان، كما أن جزءا آخر من الخلية انقسم وتطور إلى أنواع من الطحالب والأعشاب والنباتات. وتطورت الحيوانات وقمة تطورها يتمثل فى ظهور الثدييات التى منها القردة، والإنسان نوع من الثدييات الذى تطور من القردة، لكن هناك فارق بين الإنسان والقردة هو العقل والتفكير التى أسماها بالحلقة المفقودة. والإنسان فى تطور مستمر، يعتمد هذا التطور على الاختلاف فى القدرات والذكاء وليس فى الشكل أو المظهر أو فى الأعضاء، يحتل قمة التطور البشرى من أظهر تطوراً عقلياً وذهنياً حيث صنف "داروين" التطور البشرى إلى أجناس فى أسفل التسلسل البشرى التى هى أقرب للطباع الحيوانية وتعتمد على القوة البدنية والوسائل البدائية للحصول على ما ترغب فيه، أما الأجناس البشرية التى تحتل قمة التسلسل هى الأجناس الأكثر تطوراً وتقدماً لأنها تعتمد على العقل والبديهة والذكاء فى تصرفاتها.
الانتقاء الطبيعى (Natural selection) عند داروين: الانتقاء الطبيعى أو قانون الانتخاب الطبيعي (الاصطفاء الطبيعى)، يفترض فيه "داروين" أنه عندما يدخل الأفراد في صراع مع الطبيعة من أجل البقاء يحدث اصطفاء طبيعي يؤدي إلى بقاء الكائنات الأكثر تكيفاً مع بيئاتها على قيد الحياة بما تمتاز به من صفات، وهذه الصفات قد لا تكون ذات أهمية في الظاهر. وقد قام "داروين" بشرح نظريته الانتخاب الطبيعى أو المعروفة باسم "البقاء للأصلح" فى الخمسينيات من القرن التاسع عشر، ويقول "داروين" عنها أن الكائنات تتصارع للحصول على ضروريات البقاء، كما تكافح أيضاً لدفع الأخطار التي تدمرها .. ونتيجة لذلك تحيا الكائنات ذات الصفات الملائمة للبقاء ودفع الأخطار بينما تموت الكائنات ذات الصفات غير الملائمة وغير القادرة على الحصول على ضروريات البقاء أو دفع الأخطار. فيبقى الكائن القوي السليم الذي يورث صفاته القوية لذريته، وتتجمع الصفات القوية مع مرور الزمن مكونة صفة جديدة في الكائن التى تجعله يرتقي بتلك الصفات الناشئة إلى كائن أعلى وهكذا. كما شرح "داروين" حدوث عملية التطور من خلال الانتخاب الجنسى حيث يميل كل من الذكر والأنثى إلى التزاوج بالأصلح فتورث بهذا صفات الأصلح من جيل إلى جيل، وتنعدم صفات الحيوان الضعيف لعدم الميل إلى التزاوج بينه وبين غيره.
إن عملية التطور بواسطة الانتخاب عند "داروين" تنقسم إلى ثلاثة ركائز هى: - الوراثة / Genetics - عندما يتكاثر الأفراد فى مجتمع ما، فإن الجيل الجديد يجب أن يشبه جيل الأبوين. - التنوع / Diversity – إن التشابه بين الأجيال يكون متقارباً وليس متكاملاً، بحيث يكون لكل جيل جديد بعض التنوع فى الصفات. - الانتخاب / Selection – لابد أن تكون هناك علاقة بين بعض هذه الخصائص الجديدة وزيادة القدرة على البقاء والتكاثر.
ولقد أشار "داروين" أن التطور يحدث بالفعل حيث لجأ إلى عمل المقارنات بين الحفريات التى تنتمى لحقب زمنية مختلفة والتى لاحظ معها وجود تغيير تدريجى على مر الأزمان، والتى أظهرت بالمثل أنها كانت مرتبطة ببعضها البعض عن طريق أصول مشتركة. كما كان يؤمن إيماناً شديداً بتنوع الكائنات الحية، والذى دعم هذا الإيمان تواجده فى جزر "الأرخبيل / Archipel" والتى توصل حينها هناك أن الأنواع التى تعيش على الجزر لم تتواجد على اليابسة فى نفس نوع البيئة.
جزر "الأرخبيل / Archipel"
ومن الأدلة التى توصل إليها العلماء فى العصر الحديث حول حقيقة تطور الكائنات الحية والتى لم يكن "داروين" على علم بها "الحمض النووى / DNA" الذى يعتبر المحور الأساسى الذى يدور حوله علم الوراثة والذى هو أساس تطور الكائنات الحية بالمثل. كما أن انتشار البكتريا المقاومة للمضادات الحيوية دليلاً عملياً للتطور الذى يحدث للكائنات.
* ردود الفعل تجاه نظرية "داروين" وتأثيرها: كانت أفكار داروين مثار جدل ونقاش على مدار فترة زمنية طويلة، وكان كتابه الشهير "أصل الأنواع" من بين الكتب التى يقرأها الناس ليختاروا منه ما يتفق مع معتقداتهم ويرفضون منه ما لا يجد صدى فى أنفسهم.
فأصبحت نظريته ما بين آراء مؤيدة وأخرى معارضة، كل يستند فى وجهات نظره إلى الآثار التى أحدثتها تلك النظرية فى المجتمعات على كافة المستويات الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية على النحو التالى: أولاً الآراء المؤيدة لقد سمى الفيلسوف البريطانى "هربرت سبنسر / Herbert Spencer" نظرية التطور بـ "الداروينية الاجتماعية" التى تتميز بتقديم تركيبة الطبقية من خلال المصطلح الذى استخدمه "البقاء للأصلح / The preservation of favored races in the struggle for life" – هربرت سبنسر مؤلف كتاب "الرجل ضد الدولة" وقد ساهم سبنسر في ترسيخ مفهوم الارتقاء وأعطى له أبعاداً اجتماعياً فيما عرف لاحقا بـ "الدارونية الاجتماعية"، ويعد سبنسر واحداً من مؤسسي علم الاجتماع الحديث - ومنها يشير "سبنسر" أن التنافس الاقتصادى مرآة تعكس الصراع من أجل البقاء فى العالم الطبيعى.
الأمر الذى أدى إلى اتخاذ بعض الساسة ايضاً فكرة التطور نموذجاً للتغيير لتحقيق آمالهم فى ارتقاء السلم الاجتماعى.
"من المثير كيف أعاد داروين – ما بين دراسته للوحوش اكتشاف مجتمع بريطانيا بانقساماته ما بين العمالة والمنافسة وفتح الأسواق الجديدة، والابتكارت، ونظرية توماس روبرت مالتوس / Thomas Robert Malthus فى الصراع من أجل البقاء" – كارل ماركس.
لم يكن داروين ملحداً وكان يؤمن بالديانة المسيحية السماوية، وكان يسلم فى نظريته بأن هناك خالق وهب الحياة للبشر ولكافة الكائنات الحية على الأرض، إلا أن مذاهب الفلسفة التى انتشرت فى أوربا فى أواخر القرن التاسع عشر اتخذت من نظرية النشوء والتطور ذريعة لإنكار وجود الخالق، ومن هنا وجد رجال الدين أن أفكار "داروين" تمثل تحدياً للقيم والمفاهيم الدينية وللكون الذى يخضع لنواميس منظمة يحكمها الخالق وحده.
ثانياً الآراء المعارضة تستند هذه الآراء المعارضة على الحجج التالية: إن القول بأن الكائنات الحية النباتية أو الحيوانية أنها نشأت من خلية واحدة، هذا يتعارض مع أساسيات علم الوراثة. المزيد عن علم الوراثة ..
إن افتراض الحياة نشأت وتطورت بدون وجود خالق لها يتنافى مع المفاهيم والثوابت السائدة، فهذا الكون الذى نحيا فيه يسير فى نظام يتميز بالدقة الفائقة ولا يمكن أن يحدث ذلك مصادفة، كما أن إتمام أي تفاعل لبناء أي من الجزيئات أو الأنسجة الجديدة يقتضي وجود قوة توفر القدر المطلوب من الطاقة كماً ونوعاً.
عندما وضع "داروين" نظريته لم يكن على علم بقوانين الوراثة التى وصل إليها "غريغور يوهان مندل / Gregor Johann Mendel" التى تؤكد على دور الجينات والوراثة فى نقل الصفات من جيل لآخر والتى كان يُصر فيها على أن تطور صفات الكائنات يتأثر بضغط البيئة والتنافس من أجل البقاء.
وصولاً إلى العصور الحديثة أمر لا يمكن حسمه لأن عمر الحياة على الأرض أقل بكثير عن العمر الجيولوجى للأرض نفسها الأمر الذى لا يتيح الوقت الكافى لمعرفة تطور الكائنات الحية بشكل كلى.
كما قد أشار أحد العلماء أن الكائنات الحية تتميز بصفات فردية لا تتكرر مما يدل على قدرة الخالق وفى نفس الوقت ذاته يدحض مفهوم "البقاء للأصلح".
إن تواجد كائنات متنوعة بجانب بعضها البعض يتقاسمون نفس البيئة مثل الرخويات واللافقاريات والطحالب والبكتريا تتناقض مع قانون الانتخاب الطبيعى والبقاء للأصلح. كما أن الكثير من الكائنات البدائية تفترس الكائنات الأكثر تقدماً مثل الأميبا التى تفترس الحشرات واليرقات .. كما أن الكثير من الكائنات البدائية تكون أكثر تفوقاً من الكائنات المتقدمة والتى تتمثل فى الأخطبوط السابق على الأسماك الذى تبين بأنه أكثر ذكاءاً من الأسماك ولديه قدرة كبيرة على التمييز بين أشكالها وأحجامها.
هناك اختلاف بين الإنسان والقردة التى اعتبرها "داروين" أنها أصل وجود الإنسان، هذا الاختلاف يظهر على عدة مستويات من القدرة على الكلام والإبداع والقراءة والكتابة والتفكير والمشاعر والأحاسيس، كما أن خلايا القرود تحتوى على 48 كروموسوماً وهذا بخلاف الإنسان الذى تحتوى خلاياه على 46 كروموسوماً، والاختلافات أسماها "داروين" بالحلقة المفقودة هو ومؤيديه أظهر عجزهم عن تحديد هذه الحلقة: كيف تطور الإنسان من القردة وما هى المراحل التى مر بها، وهل تطور من نوع واحد أم أكثر من نوع، وكيف حدث الانقراض .. وهكذا من التساؤلات التى لم يجد أحد إجابة لها! كما أنه إذا حدث أي تغيير في هذا العدد من زيادة أو نقصان فإن جسم الإنسان لا يتطور إلى جسم آخر بل يتعرض للتشوه.
وإذا كانت النظرية بدأت حول دراسة الكائنات الحية من الإنسان والنباتات والحيوانات إلا أنها لم تظهر اهتماماً بتطور النباتات لتوازى ما توصل إليه "داروين" فى تطور الحيوانات من العصور البدائية حتى العصور الحديثة. الرأى المعارض لنظرية النشوء والتطور تشير إلى أن هذه النظرية هى مصدر كل الهموم الإنسانية ومحاورها ما هى إلا خرافات – هذا ما قاله ألكسى كاريل في كتابه "الإنسان" – ألكسى كاريل(Alexis Carrel) كان جراحاً فرنسياً (1873 - 1944) حصل على جائزة نوبل في الطب عام 1912. فهذه النظرية كما يقول معارضوها: أنها تمحى ملايين السنين من تاريخ البشرية. إن المنهج العلمى لأى نظرية يتم التوصل إليها يقوم على التالى: وتتمثل خطوات المنهج العلمي: - السؤال/ المشكلة Question/Problem و/أو الملاحظة/البحثObservation/Research - وضع الفروض Hypothesis - التنبؤ أو التوقع Prediction - التجربة أو اختبار صحة الفروض Experimentation - التوصل إلى نتائج المعرفة العلمية Conclusion حيث تبدأ النظرية بوجود مشكلة يحاول العالم أو الباحث التوصل إلى إجابة لها أو وجود ظواهر يتم ملاحظتها بطريقة منهجية ومن ثَّم محاولة تفسيرها - التى يلاحظها - ثم يقوم بفرض الفروض لها التى يثبت صحتها من عدمه بعد إجراء التجارب العملية .. أى أن النظرية لابد وأن يتم اختبار فروضها عملياً وليس عن طريق المشاهدة أو الملاحظة وهذا ما قام به "داروين" الأمر الذى أشار إليه العلماء بأن النظرية التى قامت على المشاهدة لا التجربة العملية كما تقول خطوات المنهج العلمى هى نظرية لابد وأن يُعاد فيها النظر برمتها.
إن الأساليب المتبعة فى ميدان العلوم لم تكن متطورة بالقدر الذى تتواجد عليه فى العصر الحديث، فدراسة تطور الكائنات كان يركز على دراسة الفروقات المظهرية والخارجية أيام "داروين" أما الآن فقد تطورت العلوم وظهر الجديد منها، وكان لابد من دراسة نظريات التطور فى تسلسل تاريخى لها أى البدايات حتى تطورها فى العصور الحديثة ليثبت مدى صحتها. صحيح أن الكائنات الحية تتطور، وعند الانتقال من نوع إلى آخر يحدث تغيرات - وإن كانت تتم ببطء – فإن هذه التغيرات تصاحبها حلقات وسطية مفقودة من حيث صعوبة معرفة مصدر هذا الكائن الحى (نشوءه) وإلى أي كائن آخر ارتقى .. فهذا مستحيل! إن تفسير ظهور الحياة وظهور الخلية الأولى للكائنات عجز العلماء عن التوصل إليه بالرغم من مساعيهم التى لا تنتهى، وهناك إشارة دائمة بأن العلماء والباحثين قد اعتمدوا على تخيلاتهم أكير من اعتمادهم على معطيات علمية للتوصل إلى تفسير لبدء الحياة وظهورها.
وعن النقد الذى وجه لقانون البقاء للأصلح: فقد أشار النقاد بأن الأرض مليئة بما هو صالح وما هو غير صالح .. وبالضعيف والقوى، وأن كثيراً من الأنواع الضعيفة مازالت حياتها مستمرة وتتكاثر. - كما أن التطور ليس بالضرورة أن يتجه إلى الأفضل أو الأصلح. وأخيراً إذا كان هناك تطور مستمر ودائم للكائنات الحية وخاصة للأجناس البشرية التى انحدرت من القردة .. لماذا وقف تطور القرد عن النمط البشرى، وظل الإنسان منذ تحوله إلى الشكل الذى يوجد عليه ولم يتطور؟!
هناك البعض ممن يشيرون إلى أن نظرية النشوء والتطور التى أرسى قواعدها "داروين" على مدار 20 عاماً من البحث والتنقيب أنها نظرية أسهمت فى تشكيل الفروق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين شعوب العالم حيث نظرة الشعوب الغربية بتفوق إلى نفسها وبدونية إلى شعوب العالم الأخرى الذى تُرجم فى النهاية إلى العنصرية التى تتواجد فى الكثير من بلدان العالم فى الوقت الحاضر، ويرجع ذلك إلى ما أسماه "داروين" بالسلسة البشرية التى تضع الشعوب الأوربية على قائمة الأجناس البشرية ووصفها بتفوقها على الأجناس الأخرى التى تتلوها فى المرتبة.
كما يشير رجال الدين إلى أن "داروين" تجاهل الديانات السماوية التى تقر بأن البشر أصلهما آدم وحواء الذى خلقهما الخالق سبحانه وتعالى وأغواهما الشيطان مما كان السبب فى حرمانهما من الجنة ونزولهما إلى الأرض.
* النظرية الداروينية الجديدة: نتيجة للانتقادات المتعددة التى وجهت لنظرية النشوء والتطور، قام عدد من الباحثين بالتوصل إلى نظرية جديدة أطلقوا عليها "الداروينية الجديدة" والتى اعتبروها النسخة المصححة لنظرية "داروين الأصلية". وكان من بين الباحثين الذين تبنوا هذه النظرية الجديدة هو الباحث "هوجو دى فريس / Hugo de Vries" الذى قال بأن أساس تطور الكائنات الحية هو الطفرة (Mutation) التى تحدث عن طريقة المصادفة وليس على أساس البقاء للأصلح. فالمصادفة والانتخاب الطبيعى هما الآلية التى يكون لها الدور الأساسى فى تكون الأنواع وتكاثرها. وقد لاقت هذه النظرية الجديدة موجة من النقد بالمثل، حيث لم تجب على كافة الانتقادات التى وُجهت للنظرية الأصلية لداروين. وفند النقاد الأسباب بأن التطور الذى كان أصل البحث عند داروين يقوم على التطور التقدمى، لكن المعروف عن الطفرة أنها تقوم على الصفات السلبية والتراجع للخلف وليس التقدم. وهنا يأتي دور الانتخاب الطبيعى حيث يتم لفظ الطفرات السلبية وتبقى فقط الطفرات الايجابية التى تؤدى إلى التطور. وإذا كانت الطفرة هى أساس تطور الكائنات الحية، فكيف إذن تطورت الكائنات الحية من أصل واحد، كما أن اللجوء إلى قانون الوراثة واحتضانه فى هذه النظرية الداروينية الجديدة ما هو إلا إخفاء لنقاط الضعف التى تضمنت عليها هذه النظرية.
هوجو دى فريس / Hugo de Vries
هوجو دى فريس: هو عالم نبات هولندي وأحد أوائل علماء الوراثة، وشهرته جاءت بالأساس لاقتراحه لمفهوم الجينات،أعاد اكتشاف قوانين الوراثة في الثمانينات حيث لم يكن لديه علم عن أعمال جريجور مندل، كما أدخل التعديلات على نظرية التطور لداروين واستخدامه لمصطلح "الطفرة".
* كيفية ظهور الأنواع الجديدة: وللإجابة على هذا السؤال فقد طرح "داروين" فى نظريته عن النشوء والارتقاء كيف يمكن لنوع أن يتغير إلى نوع آخر .. أى كيف يتطور، الأمر الذى أدى إلى تغيير النظرة القديمة للأنواع على أنها أنواع مستقلة متميزة أو أنها تبقى كما هى مدى الحياة. ومن هنا جاء طرح العلماء لسؤال آخر هام: كيف يمكن للتغيير فى فصيلة ما يؤدى إلى التغيير واضح فى النوع؟
العزل المكانى / Geographical Isolation كانت أولى الاحتمالات تتمثل فى العزل المكانى، فإذا كان كان هناك حاجزاً جغرافياً طبيعياً يفصل ما بين كائنات الفصيلة الواحدة (أى جزء من الفصيلة الواحدة) مثل وجود جبال أو أنهار فإن كائنات الفصيلة الواحدة المنفصلة عن بعضها البعض ستتغير لعدم توافر القدرة لديها على التزاوج .. لكنه ليس بالاحتمال الذى ينطبق على جميع الحالات وخاصة لأنه قوبل بالهجوم الشديد لتصنيف مجموعتان من المخلوقات المتشابهة كنوعين مستقلين ومختلفين. العزل البيولوجى / Biological Isolation أما الاحتمال الثانى الذى لاقى اهتمام وتشجيع أكبر من قبل العلماء فى الثلاثة عقود الأخيرة وبعيداً عن العزل .. أنه يمكن للكائنات أن تنفصل بيولوجياً التى تترجم فى صورة تغيرات جينية تؤدى إلى اختلافات سلوكية متمثلة فى اختلاف العادات الغذائية أو فى طريقة التزاوج التى بمرور الوقت تحدث تباين فى الحياة بعيداً عن العزل المكانى كلية. وقد أشار "داروين" فى كتابه أصل الأنواع" عن كيفية تطور الأنواع الجديدة بالعبارات التالية: "من المهم أن نتذكر أن علماء الطبيعة ليس لديهم قاعدة ذهبية يقومون من خلالها بالتمييز بين الأنواع وتنوعاتها، فهم يسمحون ببعض التنوع لكل نوع، ولكنهم عندما تقابلهم اختلافات أكبر بين نموذجين، فإنهم يعرفون كل منها كنوع مستقل".
* المراجع:
"Darwin and the popularization of evolution" - "royalsocietypublishing.org".
"Darwinism" - "britannica.com".
"The Evolution of Charles Darwin" - "Smithsonian.com".