الإعاقة من منظور اجتماعى .. ظلم المجتمع للأطفال المعوقين
إن عرض قضية مسئولية المجتمع عن صناعة الإعاقة وتصديرها إلى الأطفال الذين أصابهم بعض العجز أو الخلل أو القصور الجسمي أو الحسي أو العقلي دون إرادة منهم، ليكونوا أطفال معوقين يحملون التخلف المصنوع مجتمعياً بدلاً من الاختلاف المطبوع بشرياً، يظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن المجتمع هو (الجاني) الحقيقي لإيجاد تسميات الإعاقة.
وأن الأطفال المصابين ببعض أنواع العجز والقصور هم (الضحايا) المظلومين، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يستطيع الجاني (وهو المجتمع) أن يبرأ ساحته من جريمة إعاقة ضحاياه (وهم الأطفال المعوقين)؟ المزيد عن الإعاقة وذوى الاحتياجات الخاصة ..
كما يجب التنويه إلى وجود اعتقاد سائد لدى الكثيرين من أفراد المجتمع على أن إطلاق تسميات الإعاقة لدى الأطفال المعوقين، قد يحقق نوعاً من الفائدة في كيفية التعامل العلمي معهم وتشخيص الحالات الإعاقية لديهم من ناحية، وفي تصميم وتنفيذ البرامج التربوية والعلاجية والتأهيلية من ناحية أخرى، إلا أن إطلاق هذه التسميات الإعاقية – في حد ذاتها – عملية اجتماعية، لها آثارها الاجتماعية السلبية ووصماتها المجتمعية المتدنية وأعباءها النفسية الثقيلة على الأطفال وأسرهم المبتلاه. المزيد عن الفرد و التفاعل الاجتماعى مع الآخرين ..
ولكن مع تبني صيغة المدارس الجامعة التي تضم جميع الأطفال العاديين وغير العاديين جنباً إلى جنب، والتي يحظى فيها الأطفال ذوي الإعاقات القابلين للنظم والتدريب بخدمات إضافية، بما يتناسب مع طبيعتهم الإنسانية المنفردة واحتياجاتهم التعليمية الخاصة، فإن وصمات التسميات الإعاقية ينبغي أن تتلاشى في ضوء مبادئ (التربية للجميع) من ناحية، وبما يحقق تكافؤ الفرص التربوية بين الجميع بشكل إنساني من ناحية أخرى.
وإذا كان معظم الأطفال المعوقين (جسميا/ عقليا/ سمعيا/ بصرياً) يجتازون مراحل حياتهم العادية بشكل أقرب إلى الطبيعي، ولا سيما عندما يكونون خارج النظام التعليمي، خاصة عندما يتعامل أفراد المجتمع معهم في ضوء (الطبيعة الإنسانية الخاصة بهم) التي لم تقلل من عزيمتهم على مواصلة الحياة الإجتماعية، وليس في ضوء (الاستجابة المجتمعية) المقرونة بوجود مظاهر العجز والخلل والقصور الذي أصابهم، فإن التسميات الإعاقية يجب أن تختفي من قاموس التعامل المجتمعي اليومي مع هؤلاء المبتلين بالإعاقة، ليحيوا حياة إنسانية طبيعية يحظون فيها بالاحترام والتقدير، بعيداً عن الإحساس بالمهانة الاجتماعية والأحاسيس الدونية التي تصب في مخزون المرارة النفسية.
هذا ويكمن توضيح مسئولية المجتمع (الجاني) عن صناعة الإعاقة وتدشين مسمياتها الإعاقية لدى (ضحاياه) من الأطفال المعوقين، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي: 1- المجتمع هو الذي صنع معاني الإعاقة: تعد الإعاقة ظاهرة مجتمعية تتعلق بالتسميات والتوقعات وردود الأفعال المجتمعية تجاه الأطفال المعوقين، أكثر منها ظاهرة عضوية أو فسيولوجية تتعلق بحدوث إصابات العجز والخلل والقصور التي تصيب الإنسان دون إرادة منه، فالمجتمع هو الذي يضع معايير الحكم على السلوك السوي والسلوك غير السوي للأفراد والجماعات الفرعية فيه، ذلك السلوك الذي يختلف – في استوائه – من ثقافة مجتمع إلى ثقافة مجتمع آخر، ومن هنا فالطفل المعوق في مجتمع قد لا يكون معوقاً في ثقافة مجتمع آخر، وعلى هذا، فلا يوجد أطفال معوقون في مجتمعات متحضرة ولكن يوجد مجتمعات متخلفة تعوق الأطفال دون ذنب جنوه.
2- المجتمع هو الذي يحكم على الأطفال بالإعاقة: إن الإعاقة حالة إنسانية يسهم المجتمع في إبرازها وتحديد ملامحها لتكون شكلاً في أرضية المجتمع، ذلك أن خصائص الفرد الجسمية والعقلية والإجتماعية والوجدانية والسلوكية، يمكن أن تصبح في حكم التعويق حين يقيمها المجتمع على أنها حالة استثنائية أو غير عادية أو على الأقل غير مرغوب فيها، ومن هنا يبدأ المجتمع في فرض العزلة التدريجية على المعوقين وإبعادهم وتهميشهم، لا لحمايتهم ورعايتهم وتنميتهم كمبرر إيجابي كما قد يدعي البعض، وإنما لتوفير الراحة للأطفال العاديين وعدم إزعاج الأفراد الآخرين في معظم الأحيان. المزيد عن العزلة الاجتماعية .. والانفصال عن الآخرين ..
3- المجتمع هو الذي يصنف الإعاقات المختلفة: إن تصنيف الإعاقات إلى أنواعها المختلفة وفئاتها المتنوعة عملية اجتماعية فالمجتمع هو الذي يحدد الصفات الشخصية التي يتم في ضوئها تصنيف الإعاقات والمعوقين، والمجتمع هو الذي يقرر معايير تقييم الإعاقات الشديدة والمتوسطة والبسيطة، والمجتمع هو الذي يحدد مستويات الأداء المتوقع للأطفال المعوقين، والمجتمع هو الذي يحدد مستويات الذكاء، فهذا منخفض الذكاء وأقل من كذا، وهذا متوسط الذكاء ويتراوح ما بين كذا وكذا، وهذا مرتفع الذكاء فوق درجة كذا، ومن ثم يضع – المجتمع – مفهوم الطفل العادي والطفل غير العادي بما فيه الطفل المعوق. فهذا طفل ذكي، وهذا طفل مبتكر، وهذا طفل موهوب، وهذا طفل معوق وهكذا.
4- المجتمع هو الذي يلصق الإعاقات المختلفة بالأطفال: على الرغم من أن المجتمع يسمى الإعاقات ويلصقها بالأطفال المصابين ببعض أنواع القصور الجسمي أو الحسي أو العقلي ...الخ، فهؤلاء الأطفال يعانون من قصور في الفهم والعلم والوعي والتعلم، فيصنفهم المجتمع على أنهم معوقين عقلياً. وهؤلاء الأطفال يعانون من قصور في السمع كلياً أو جزئياً، فيصنفهم المجتمع على أنهم معوقين سمعياً أو صماً، وهؤلاء الأطفال يعانون من قصور في البصر كلياً أو جزئياً، فيصنفهم المجتمع على أنهم معوقين بصرياً أو مكفوفين وهكذا. دون مراعاة للآثار الاجتماعية والنفسية التي تلحق بهؤلاء الأطفال، كوصمات بغيضة تحملهم بأعباء نفسية لا طاقة لهم بها، قد تدفعهم إلى الإنسحاب والاكتئاب والانزواء والاختفاء بعيداً عن الناس، تجنباً للمرارة النفسية وخشية من المهانة الإجتماعية. المزيد عن الاكتئاب ..
5- المجتمع هو الذي يحدد التوقعات المنتظرة من المعوقين: تتحدد توقعات المجتمع من الفرد في ضوء الدور الاجتماعي الذي يوكل إليه، والمجتمع هو الذي يحدد الأدوار الاجتماعية ومواصفاتها وما يرتبط بها من سلوكيات للأفراد العاديين وغير العاديين بما فيهم المعوقين، وعلى هذا فالدور الذي يحدده المجتمع للطفل المعوق له حدوده ومواصفاته، فهناك، ولأن المجتمع هو الذي يحدد طبيعة توقعاته من الفرد المعوق، فإن هذا المعوق يلتزم بهذا الدور ويرتضيه لنفسه ويتوحد معه كرها لا طوعاً، لأن المجتمع يكافئه على هذا الدور المرسوم له، بل وقد يعاقبه – المجتمع – وينفر منه، إذا سعى للتمرد على هذا الدور أو الإنسلاخ عنه بعيداً عن توقعات المجتمع.
6- المجتمع هو الذي يحدد ردود الأفعال تجاه الطفل المعوق: إن المجتمع هو الذي يحدد مفاهيم ا إعاقة والمعايير الحاكمة لها التي قد لا يستطيع الفرد المعوق الاستجابة لها لسبب أو لآخر، ثم هو – أي المجتمع- الذي يعامل المعوق بعد ذلك على أن سلوكه غير مقبول أو غير مرغوب اجتماعياً، أو أنه في منزلة متدينة لا تؤهله لتلك المعايير الاجتماعية التي صنعها المجتمع وحدد مسئولياتها، وعلى هذا فإن أى فرد سليم من الناحية الجسمية والحسية والعقلية والوجدانية، يمكن أن يصبح فرداً معوقاً حتى بدون تغيير في خصائصه الإنسانية، ولكن بالتغيير فقط في ردود أفعال المجتمع نحوه في مواقف التفاعل الاجتماعي.
7- المجتمع هو الذي يركز مشكلة الإعاقة داخل الطفل المعوق: إن الملاحظ لثقافة مجتمعنا العربي يجد موقفاً غريباً من هذا المجتمع تجاه الأطفال المعوقين، حيث يتجلى هذا الموقف في تنصل المجتمع من مشكلة الإعاقة التي صنعها، والعمل على تركيزها داخل الطفل المعوق وأسرته المبتلاه، دون أن يساعده على نقل هذه الإعاقة من داخله إلى خارجه ليتحملها المجتمع رعاية وتنمية نيابة عن هذا الطفل، الأمر الذي يسهم في استمرار رؤية التدني والرفض والإزدراء والسخرية والتهميش والاستبعاد والإساءة والإهمال تجاه هؤلاء الأطفال المعوقين، وكأنهم كائنات حية لا تليق بمجتمع البشر.
وهناك بعض المجتمعات يتصف نظامها بالجمود وعدم المرونة وتميل إلى ثقافة الاستبعاد للأطفال المعوقين أكثر من ثقافة المشاركة والدمج بمفهومه الشامل، والسؤال الذي يطرح نفسه، متى يصبح نظام هذه المجتمعات التعليمية نظاماً تربوياً راقياً يقبل جميع الأطفال العاديين المعوقين وتستجب لها في تطويرها التنظيمي وإستراتيجياتها المناسبة وعلاقاتها التشاركية؟ تلك المدرسة الجامعة التي يحظى فيها الأطفال المعوقين بدعم تربوي إضافي يضمن لهم الحصول على حقوقهم الإنسانية في التعليم والحياة الطبيعية في المجتمع. وإلى أن يتم هذا الأمل الممكن تحقيقه، ستظل بعض المجتمعات صانعةً للإعاقة، وجانيةً على ضحاياها من الأطفال المعوقين وأسرهم المبتلاه. المزيد عن احتياجات ذوى الاحتياجات الخاصة ..
* المراجع:
"Past and Present Perceptions Towards Disability" - "dsq-sds.org".
"Disability Barriers" - "cdc.gov".
"It's time to stop fighting disability and start fighting society" - "rootedinrights.org".
"What is the social model of disability?" - "scope.org.uk".