يعد موضوع التنشئة الاجتماعية (Socialization) واحداً من
الموضوعات الهامة التى شغلت اهتمام عدد كبير من الباحثين ينتظم نشاطهم البحثى فى إطار تخصصات مختلفة،
وعديدة. ويحتمل أن يرجع هذا الاهتمام إلى أن هذا الموضوع له اهتمام خاص فى وجدان الجنس البشرى.
ولو أنك قارنت بين الأطفال الرضع فى الثقافات المختلفة لراعك ما بين سلوكهم من تشابه كبير، فهم جميعاً يمرون
بنفس المراحل تقريباً عند تعلم المشى مثلا، ويقعون بالدرجة الأولى تحت تأثير حاجاتهم الفسيولوجية، كما أنهم متشابهون إلى حد كبير فى
شتى مظاهر النمو. ولكن، قد تكون بينهم بعض الفروق الفردية، فقد يختلفون فى المدة التى يقضونها فى النمو، أو قد يختلفون فى كمية
النشاط والحركة التى تصدر عنهم. وعلى الرغم من ذلك، فإن الذى يدهشنا، هو أن مقدار الاتفاق والتشابه بين أفراد الجنس البشرى –
خاصة فى المراحل الأولى من العمر – يفوق بكثير ما يكون بينهم من تفاوت واختلاف.
وباستمرار الحياة لهؤلاء الأطفال، فإن الحال لا يدوم على ما هو عليه، وإنما يضطرد نمو الأفراد ويتقدم
بهم السن، ويظهر تدريجياً اتضاح التباين والتفاوت بينهم ونجد أن أبناء كل مجتمع أو ثقافة معينة قد
تشابهوا فيما بينهم وتمايزوا عن أبناء الثقافات الأخرى وليس هذا فحسب، بل أننا نجد أن أبناء الثقافات الفرعية
Sub – Cultural قد تمايز بعضهم عن بعض ويجمع بينهم النمط العام للثقافة الأم.
ومما لا شك فيه أننا لا نولد كائنات اجتماعية، بل إننا نولد ولدينا فقط الامكانات لأن نكون كائنات اجتماعية
ونحن نصبح على هذا النحو من خلال عدة عمليات متعددة تختلف من حيث بساطتها وتعقيدها، ويطلق على هذه
العمليات مصطلح "عمليات التنشئة والتطبيع الاجتماعى" وهو مرادف للأصل الإنجليزى المعروف بـ Socialization
Process. وهذه العمليات تعد من العوامل الرئيسية المهمة فى تحديد وتشكيل سلوك الفرد، شأنها فى ذلك شأن
العوامل الوراثية والبيئية سواء بسواء.
* مفهوم التنشئة والتطبيع الاجتماعى:
يمكن النظر إلى عمليات التنشئة والتطبيع الاجتماعى على أنها عمليات تعلم وتعليم وتربية، وتعتمد أساساً على
التفاعل الاجتماعى Social Interaction وتهدف إلى اكتساب الفرد سلوكاً ومعايير Norms واتجاهات Attitudes
مناسبة لأدوار اجتماعية Social Role معينة تمكنه من مسايرة جماعته والتوافق الاجتماعى Social Adjustment
معها، وتكسبه الطابع الاجتماعى وتسير له عملية الاندماج فى الحياة الاجتماعية.
ولذلك يمكن اعتبارها عملية تشكيل السلوك الاجتماعى للفرد، وأنه عن طريقها بتم استخدام ثقافة المجتمع فى
بناء شخصية الفرد، أى أنها تمثل تلك العملية التى عن طريقها تطبع المادة الخام للطبيعة البشرية فى النمط
الاجتماعى والثقافة. وهى بذلك تعتبر عملية تشكيل اجتماعى لخامات الشخصية، يتم عن طريقها ومن خلالها
تحويل الكائن البيولوجى إلى كائن اجتماعى، وبذالك يكتسب الإنسان صفته الإنسانية.
ذلك الكائن الذى يبقى زمناً معلوماً فى
رحم الأم البيولوجى، ثم يخرج لكى يجد رحم الجماعة ويبقى فيه فترة حياته، حيث يتناوله بالشكل والتطوير
الاجتماعى مثل ما فعل به الرحم البيولوجى فى تشكيله وتطويره العضوى. وعن طريق عمليات التطبيع الاجتماعى
يتحول ذلك الكائن الذى تغلب عليه الحاجات البيولوجية إلى كائن تغلب عليه الحاجات الاجتماعية.
وعلى هذا الأساس، فقد ينظر إلى عملية التنشئة والتطبيع الاجتماعى على أنها عملية تعلم اجتماعى Social
Learning، حيث يتعلم فيها الفرد عن طريق عمليات التفاعل الاجتماعى أدواره الاجتماعية ويتمثل بكسب
المعايير الاجتماعية التى تحدد هذه الأدوار الاجتماعية. وأيضاً من خلال عمليات التعلم الاجتماعى، يتعلم الفرد
كيف يسلك بطريقة اجتماعية توافق عليها الجماعة وترتضيها المجتمع، وبحيث يتطابق هذا السلوك مع توقعات
الجماعة التى ينتمى إليها.
كما يمكن النظر إلى عملية التنشئة الاجتماعية على أنها عملية نمو يتحول من خلالها الفرد من طفل يتميز
بالاعتماد على غيره والتمركز حول ذاته ويبحث فى المقام الأول عن إشباع حاجاته البيولوجية إلى فرد ناضج يعرف
معنى الفردية والاستقلال ويتحمل المسئولية الاجتماعية ولا يخضع فى سلوكه تحت سيطرة الحاجات البيولوجية وإنما
يتحرك وفق المعايير الاجتماعية وينشئ علاقات اجتماعية سليمة مع الآخرين.
والتنشئة الاجتماعية من وجهة نظر تالكوت بارسونز / Talcott Parsons "من 1902 - إلى 1979" لها
معنيان الأول: يرى أن التنشئة الاجتماعية هى التمثل الداخلى للثقافة المعطاة عن طريق الأسرة الصغيرة.
والثانى: أن عملية التنشئة الاجتماعية ينظر إليها – من خلال الأفراد القائمين عليها – كعملية عن طريقها تعد
شخصية الفرد لتأخذ دوراً مستقلاً فى المجتمع. وهو يشبه عملية التنشئة بالعملية العلاجية، حيث فى كل منهما يدخل
الأشخاص المراد تنشئهم (علاجهم) فى علاقات مع الشخص القائم على عملية التنشئة (عملية العلاج) ويمر بمراحل
محددة حتى يصل إلى نهايتها.
ويمكن القول بأن العملية التربوية التى تتم من خلالها عملية التنشئة والتطبيع الاجتماعى، تسند إلى ثلاثة
عناصر أساسية، هى:
1- عجز الوليد البشرى: وهذا العنصر يمثل الإمكانية الإيجابية التى تستغلها عملية التنشئة الاجتماعية فى
إكساب الفرد البيولوجى صفته الإنسانية والاجتماعية.
2- مرونة الشخصية ومطاوعتها: ويدل ذلك على أن الشخصية الإنسانية ليس لها نمط فطرى تثبت عنده ولا تتعداه رغم
الظروف البيئية التى تتعرض لها عملية التنشئة الاجتماعية وتتفاعل معها.
وهذه المرونة تكسب الفرد الإنسانى طابعاً اجتماعياً معيناً يختلف باختلاف المجتمعات، والشخصية الإنسانية تكفيها
الظروف الاجتماعية السائدة وتصهرها فى نتاج معين يمتاز بصفات ومقومات معينة.
3- الوسط الاجتماعى: بمفهومه الشامل، الذى تتم فى عمليه التنشئة والتطبيع الاجتماعى، ذلك أن نوع البيئة
من حيث درجة المرونة والجمود يؤثر فى التشكيل الإنسانى للشخصية.
ولذا يمكن القول، بأن عملية التنشئة والتطبيع الاجتماعى عملية مستمرة تستمر باستمرار الحياة، وتبقى
ببقاء الأفراد. وهى تحدث من خلال عمليات التأثير والتأثر المتبادل بين الأفراد فى المواقف
الاجتماعية، وتكون محصلة هذا التفاعل متمثلة فى نوعين من النواتج، أولها: شخصية فردية متميزة. وثانيهما
الحضارة الإنسانية. فمن خلال عمليات التنشئة يكتسب الأفراد أنماطاً معينة من السلوك تصدر عنهم فى مواقف
اجتماعية معينة، وفى نفس الوقت تكسب أفراد المجتمع الواحد طابعاً قومياً يميزهم عن بقية المجتمعات ذات
الأطر الثقافية المختلفة.
وترجع عملية التنشئة الاجتماعية إلى عملية التغير والنمو التى يخضع لها الفرد كنتيجة للتفاعل الاجتماعى
والأدوار الاجتماعية، ولذلك فعملية التنشئة يمكن أن تدرس من ناحيتين، أولهما: النظر إلى التطور والتغير
الذى يحدث للفرد وثانيهما: النظر إلى المؤسسات الموجودة فى البيئة الاجتماعية والتى تؤثر عليه – فالفرد يتفاعل مع البيئة المحيطة به باستمرار – وهو
يسعى دائماً لتعديلها والتحكم فيها كى تتلاءم مع احتياجاته ومطالبة العقلية والبدنية والاجتماعية.
ومن
ناحية أخرى فإن البيئة بدورها تؤثر على الفرد وطاقته المبذولة مع درجة تلك الحاجة والدوافع إليها.
وعلى هذا الأساس، يمكن أن نحدد لعملية التنشئة والتطبيع الاجتماعى وظيفتين أساسيتين لحياة الإنسان:
أولهما: وظيفة تتعلق بالفرد، وفيها تقدم عمليات التنشئة والتطبع الاجتماعى للفرد الأساليب والمهارات
اللازمة كى يساهم مساهمة فعالة فى المجتمع.
وثانيهما:
وظيفة تتعلق بالمجتمع، فالمجتمع لا يمكن أن يستمر من جيل إلى جيل إلا من خلال عملية التطبيع والتنشئة
والتطبيع الاجتماعى ينشأ بين الفرد والمجتمع درجة من الاعتماد المتبادل حيث يشعر الفرد أن وجود الحقيقى
مرتهن بالوجود فى المجتمع، كما حياة المجتمع هى محصلة لجهود أفراده فى شتى مجالات الحياة.
ويمكن أن تستخلص مما سبق، أننا نعنى بالتنشئة والتطبيع الاجتماعى، وأهم العمليات التى يستطيع بها الوليد
البشرى المزود بإمكانات سلوكية فطرية أن يتطور وينمو نفسياً واجتماعياً، بحيث يصبح فى النهاية شخصية
اجتماعية تعمل وفقاً لأحكام جماعتها ومعايير ثقافتها. وهذا المفهوم للتنشئة والتطبيع الاجتماعى يتضمن
مستويين أساسين، هما:
مستوى خاص بالأسرة: حيث هى المكان الأول والمناسب الذى يتعلم فيه الطفل العادات الأساسية لجماعته. كما أنها
تهدف إلى إمداد المجتمع بأعضاء جدد على علم بأصول وقواعد مجتمعهم ومنفذين تعاليم ثقافتهم.. فالأسرة
بمعناها الدقيق رمز للعلاقات الجنسية الشرعية التى يقرها المجتمع للراشدين من أعضائه والتى يترتب عليها
إنجاب أعضاء جدد. والطفل نفسه يشتق وجوده الاجتماعى من شرعية هذه العلاقات. المزيد عن الأسرة ومسئولية التربية ..
ووجود الطفل بين جماعة تسود أفرادها العلاقات الحميمة وتتميز فيها مراكز القوة والقيادة بحكم الصغر النسبى
لعدد أفرادها .. والارتباط العضوى بهم .. وكل هذا وغيره يساعد على التطور النفسى الجنسى للطفل، كما يساعده على
تنظيم علاقته بنفسه وبغيره من أعضاء جماعته .. وقمع وضبط دوافعه المختلفة بالدرجة التى يمكن التحكم فيها
اجتماعيا، وليس إلى الحد الذى يفقد الأبوين والطفل معاً السيطرة عليها، وكذلك فإن الأسرة تحدد للطفل خصائص
سلوكه الاجتماعى عن طريق تحديد اسمه ودينه ومكانته وإلى حد ما ثقافته.
ويتعلق بالمستوى الأول أيضا المعنى الثقافى للتنشئة والتطبيع الاجتماعى فهى بدون شك تمثل أبرز الجوانب
للتراث الثقافى للمجتمعات الإنسانية. ويمكن اعتبارها وحدة ثقافية فى حد ذاتها تتضمن الأفكار التقليدية التى
تبقى عبر التاريخ بعد أن ثبت صلاحيتها لتشكيل أفراد المجتمع وفق أنماط الثقافة السائدة فيه، وما يعزى على
هذه الأنماط من قيم وعادات ومحرمات ودوافع. والواقع أن معظم تقاليد التنشئة والتطبيع الاجتماعى تنتظم حول
عادات الممارسة التى يمكن التعبير عنها بأساليب الثواب والعقاب. وهذه الأساليب والعادات تحدد بدورها مدى
التفاعل بين الوالدين وأطفالهما، كما أنها تحدد نتيجة ما يدور فى فلكها من معتقدات وقيم ودوافع وقواعد ومحرمات ورضا.. الخ. المزيد عن عقاب الطفل .. المزيد عن إثابة الطفل ..
والتنشئة والتطبيع الاجتماعى بهذا المعنى يمكن أن ننظر إليها كوسيط ثقافى يحول كل ما هو موجود
نظرياً (أى الأنماط الثقافية السائدة فى مجتمع معين) إلى وجود فعلى (أى ينقل أو يورث ثقافياً إلى الأطفال)،
كما يتحول أيضاً عن طريقها هذا الوجود الفعلى إلى وجود بالقوة (عن طريق إكساب الطفل شخصيته أو عاداته السلوكية).
كما ينظر إليها على أنها أهم العمليات الثقافية التى تعمل على استمرار بقاء ثقافة المجتمع وتراكمها.
وهى كأى عملية ثقافية لها طبيعة رمزية أو لغوية، وهذه الخاصية تمكن الطفل بمساعدة والديه – وغيرها – من
الاستفادة بخبرات التعلم فى الموقف المختلفة للتنشئة والتطبيع الاجتماعى. إذ بحكم الخاصية الطبيعية
لاستخدام الرمز أو اللغة، يمكن للطفل أن يتعلم كيف يتصور أى كيف يتحرر من عنصرى الزمان والمكان فى
معالجته لمعانى الأشياء وفى إمكانية تناول الكثير من خبرات غيره من بنى جنسه بطريقة جاهزة. وباختصار تعمل
التنشئة الاجتماعية نتيجة استخدامها لخاصية الرمز على أن يكتسب الفرد صفة المعنوية والتجريد والاستمرار، وهو
ما يفتقر إليه أى كائن غير إنسانى بحكم عدم قدرته البيولوجية والعقلية على استخدام الرموز وما يتبعها من خصائص.
ولا تهدف التنشئة الاجتماعية إلى مجرد تلقين الطفل أو تعليمه ما هو موجود بالفعل من تقاليد وعادات مختلفة،
بل تهدف فى المقام الأول إلى إدماج نظام القيم فى ذوات الأفراد، بحيث يمكن لهم أن يتمثلوا معانى المجاراة
بشقيها وما يترتب عن ذلك من عمليات سيكولوجية تعمل على تلقائية السلوك وتنميته وهذه العملية لا تتم فى
تقدرينا إلا على مستوى رمزى، أى تعتمد أساسا على الرمز أو التجريد.
2- مستوى خاص بالتفاعل أو "ديناميات التنشئة والتطبيع الاجتماعى":
وهذا المستوى شديد الارتباط بل هو مكمل للمستوى الأول، فكل ما هو موجود
من تقاليد وعادات وقيم بشكل نظرى يحوله هذا المستوى إلى وجود فعلى ثم إلى
وجود بالقوة. إن التنشئة الاجتماعية تعتمد أساسا على التعلم الاجتماعى، هذه العملية تعتبر بدورها
تفاعلاً بين الطفل وأبويه أو أسرته فى المواقف المختلفة التى تتضمنها عمليات التنشئة والتطبيع.
ولما كانت جميع مواقف التعلم الاجتماعى التى تتضمنها التنشئة على قدر بالغ من التعقيد بحيث لا يمكن تفسيرها
بقوانين التعلم التقليدية التى تعتمد على فكرة العامل الواحد أو المرحلة الواحدة فى الاكتساب، ومن هنا كانت نظرية أورفال هوبارت مورير / Orval Hobart Mowrer
عام 1960 ذات العاملين فى التعليم والتى تقدم تفسير لديناميات التعلم الاجتماعى
التى تعتبر العمود الفقرى فى التنشئة الاجتماعية ويرى "مورير" أن سلوك الكائن الحى ينقسم إلى نوعين الأول:
انفعالى أو فسيولوجى، واستجاباته تخضع لسيطرة الجهاز العصبى المستقبل، وهذه الاستجابات وقائية انفعالية
تهدف إلى تجنب الألم الذى قد يتعرض له الكائن الحى
والثانى خاص "بالاستجابات الواضحة أو الأدائية" التى تهدف إلى السيطرة على الموقف الذى يوحد فيه، وضبط
الظروف المحددة له، وهو بالتالى يخضع لسيطرة الجهاز المركزى العصبى، ومن ثَّم فعنده أن سيكولوجية الانفعال
تختلف عن سيكولوجية الأداء اختلافاً جوهرياً.
وبذلك فإن "مورير" قد عبر الهوة السحيقة بين النظريات السلوكية والنظريات الإدراكية فى التعلم عندما اهتم
بدور الانفعال فى عملية التعلم.
وعلى هذا، يرى "مورير" أن التعلم لا يتم على مرحلة واحدة، كما أنه ليس قاصراً على نمط واحد من النمطين السابقين،
إنما يتم على مرحلتين، كل منهما تمثل نمطاً من النمطين السابقين.
وبصفة عامة يمكن اعتبار السلوك الصادر عن الفرد محصلة لمجموعة من القوى والمحددات المتفاعلة معا،
أحداهما محددات عامة وثانيهما محددات بيئية، وثالثهما محددات خاصة تتعلق بالشخصية والذات التى
يتكون منها الفرد.